عاجل

مياه الشرب تهدد الأميركيين بـ"أمراض خطيرة"    هل زودت تركيا إسرائيل بالمعلومات لصد الهجوم الإيراني ؟    الميادين: نيران من لبنان باتجاه هدف عسكري في محيط عرب عرامشة    

هذه البلاد ليست لي .. وليست لك ..وليست للرئيس .. هذه البلاد لنا كلنا .. بقلم نارام سرجون

2020-05-15

كثيرا مانحتار في كيفية معرفة معاني الاشياء ويصعب علينا ان نفسرها فنلجأ الى سلوك يترجمها وينقل روحها الى من نحب .. فيحتار العاشق كيف يترجم أحاسيسه الى محبوبته فنراه يجترح موقفا او يقطف وردة او يرمي نظرة تغنيه عن كل القواميس .. والوطنية ربما حيرتني أكثر من غيرها ككلمة نريد تعريفها في معادلة تشبه معادلة الفيزياء لاسحاق نيوتن او معادلة الطاقة والكتلة لاينشتاين.. لاتوجد تعريفات في اللغات تفي حق هذه الكلمة وتشرحها اي عبارة .. وتنقل روحها .. فهناك شروح كثيرة وتعريفات أكثر .. وماأعرفه ان هناك سلوكا وموقفا وفدائية ربما نعجز عن ترجمتها في كلمات .. ولكنني كنت دوما ابحث عن معادلة ترحمني من حيرتي وتشفي ظمأي .. فما اصعب ان تشرب الماء من نبع هدّار وأنت لاترتوي .. فلطالما شربت كثيرا من عروق الكلام وعصرت اللغات ولكن حلقي ظل جافا .. وكنت دوما أجادل زواري وأصدقائي في أن يأتوني بتعريف للوطنية .. خاصة في هذه الظروف الصعبة التي أكثر مانحتاج فيها فهما عميقا وبسيطا للوطنية في زمن أعاصير الفساد والحرب..
ولكنني وللصدفة كأنني وقعت على ضالتي من دون قصد .. وتوقفت فجأة أمام عبارة جلجلت في عقلي وقلبي صدرت عن أحد الأصدقاء القدامى الذي زارني منذ فترة بعد غياب طويل في غربته .. كان يمتدح وطنيتي ويثني عليها .. وأنا عرفت وطنيته أيضا واخلاصه للبلاد وحبه لسورية رغم انه عاني من مضايقات الفاسدين فهاجر منذ زمن طويل .. ولكن وطنيته لم تتغير وبقيت صافية كعرق الماس .. ولاأدري كيف خطر ببالي أن أسأله عن سبب تمسكه بوطنه رغم بعده عنه ورغم ان الفاسدين تسببوا في غربته الطويلة ومنعوه من أن يقدم مشروعه العلمي والخدمي وفرشوا دربه بالاهوال والقوانين القرقوشية والبيروقراطية .. فقال لي انها قصة تشبه وميض البرق في القلب الداجي .. وتشبه لحظة اكتشاف أرخميدس لسر علاقة كتلة الذهب بكتلة الماء المزاح حتى صرخ من الدهشة والفرح الطاغي: وجدتها .. فطلبت من هذا الصديق أن يروي لي تلك الومضة التي ومضت ولم تنطفئ منذ تلك اللحظة حتى اليوم وحافظت على روحه الوطنية .. فقال:

في أحد الايام وبعد ان تخرجت من كلية الطب وأنهيت مرحلة الاختصاص العام في بداية التسعينات وجدت نفسي أبحث عن عمل يليق بخبرتي وبطموحي للالتحاق به لأصبح طبيب قلب اختصاصيا .. ولكني لاقيت الأهوال لان ثقافة الواسطة والمحسوبية أكلت الاخضر واليابس ولم تترك لنا الا الحطب واليباب من الوظائف .. ولم تكن لي اي قناة الى واسطة متنفذة وبت معلقا في الهواء .. لاأنا قادر على ان اعمل والتحق باختصاص أطمح اليه وأحقق حلمي ولاأنا قادر على ان أبقى في مكاني..

تابع صديقي وهو يشرب القهوة وينظر عبر النافذة وكأنه يراقب مشهدا من الماضي يراه أمامه وكأن النافذة أضحت شاشة عرض يرى ماضيه السحيق .. فقال:

وفيما أنا في قعر اليأس ياصديقي .. همس لي أحدهم وكأنه يقول سرا مكتوما بأن وزارة الصحة بشأن تأسيس مركز لجراحة القلب في دمشق سيكون أحد أهم المراكز في الشرق الأوسط وهناك تعيين للأطباء الجدد .. وعليك أن تجد واسطة بأي ثمن توصلك الى وزير الصحة الدكتور محمد اياد الشطي .. او الى مدير المركز الدكتور أحمد زكي سكر وهو أحد تلامذة جراح القلب الشهير مجدي يعقوب وكريستيان برنار الذي كان أول من زرع قلبا في العالم..

رشف صديقي قهوته وتابع: وابتسمت في سري وعرفت ان طريقي مسدود سلفا .. ولكنني وبعد تفكير طويل وتردد كبير قررت انني لن أخسر شيئا من الخوض في هذا البحر العميق وأنا أعرف خاتمتي فيه .. وسأذهب من غير واسطة الى أحد الرجلين وأطلب التعاقد والعمل..

وعندما كشفت خطتي لأصدقائي في ذلك المساء ابتسم البعض ووجم البعض وضحك البعض طويلا .. وسمعت سخرية وتعليقات مشفقة من سذاجتي .. ولكن أحدهم وهو من العارفين ببواطن الامور قال لي بجدية مطلقة ناصحا وسط صمت الجميع: اسمع وأنصت جيدا لما أعرفه يارفيقي .. هذا المركز في دمشق .. وتديره شخصية دمشقية عريقة من الميدان هو الدكتور أحمد زكي سكر ابن العائلة البرجوازية المعروفة .. ويشرف على المشروع شخص دمشقي آخر هو وزير الصحة الدكتور الشطي الذي ورغم احترامنا له فانه سيحترم دمشقيته أولا .. فهذا المشروع مبني لأبناء دمشق وأهل الشام تحديدا .. وهو مشروع دمشقي حصرا .. وأنت من “المهاجرين” من الساحل السوري .. وفهمك كفاية..

الحقيقة ان كلامه أحبطني .. لان هناك شيئا من الحقيقة في ان بعض ثقافتنا متأثر بهذه الطريقة من التحليل المناطقي والمذهبي..
وفي نهاية اللقاء أجمعت الجلسة على أنني سأضيع وقتي .. وأن علي ان أكون أكثر براغماتية .. وتمنى عليّ الجميع بصدق أن أوفر على نفسي اللقاء المذل او الرد المهين بالرفض رغم حلاوة اللسان الدمشقي .. الذي سيزيد من احباطي ويأسي..

وتابع صديقي حكايته وقد نال مني اهتماما أكبر لأعرف منه في النهاية كيف توصل من هذه التجربة الى تعريف خاص له للوطنية وتلخيص لها .. فقال:
ولكنني كنت والجدار خلف ظهري.. فلم يعد لدي أي شيء أخسره .. فقررت ان أذهب لتقديم الطلب ولن أبالي .. لا لشيء بل لأكسب خبرة في الحياة في معرفة كيف يتعامل الناس مع الفقراء واللامدعومين واللامحظوظين أمثالي..

وبالفعل ذهبت الى عيادة الدكتور سكر في شارع 29 أيار وطلبت لقاءه .. فأعطتني السكرتيرة موعدا في المساء بعد نهاية العيادة..
وصلت الحكاية الى نقطة حاسمة وصرت تواقا لأعرف هذه المغامرة الصغيرة كيف انتهت الى معرفة كبيرة .. فسكبت فنجانا ثانيأ من القهوة وأنا كلي آذان صاغية لصديقي الذي تابع منتشيا بأنه جذب اهتمامي بقوة.

في المساء كنت أجلس أنتظر خروج آخر المرضى في عيادة الدكتور سكر .. وماهي الا دقائق حتى فتح لي الباب ودعتني السكرتيرة بتهذيب للدخول .. فابتسمت في سري وقلت “سأقول للأصدقاء هذه اللفتة الكريمة كي يضحكوا من “البداية الطيبة والنهاية الحزينة” ..
وعندما دخلت وقف الدكتور سكر واستقبلني باحترام .. فقدمت له نفسي .. وكدت أتلعثم لأن اسمي لايبدو دمشقيا .. فالأسماء العريقة الدمشقية معروفة وتكاد تقول هويتها من نطقها .. اما اسمي فكان يقول انني من الساحل السوري او على الاقل فانني أبعد عن دمشق 200 كم على الاقل..

ثم انتقلت الى شرح غرضي من الزيارة .. وهي انني طبيب ناجح ناشئ ولكنني أطمح في الاختصاص في أمراض القلب ولم أجد فرصة حتى الآن .. فجعل الدكتور سكر يسألني أسئلة محددة عن معدلي الجامعي وعن المكان الذي نلت اختصاصي فيه وعن خبرتي وأشياء كثيرة طبية .. ومع كل سؤال كنت أحس ان الاعتذار اللطيف سيكون قريبا في لحظات لأنه سيجد الثغرة الكبيرة التي ستبرر له الرفض..

وبعد ان انتهى .. هز رأسه وقال بشكل فاجأني: “تبدو مناسبا للعمل معنا” .. فبدت عليّ علامات الحيرة..
ولم تنته المفاجأة هنا .. بل انه امسك ورقة وقلما وكتب مباشرة الى وزير الصحة الدكتور الشطي: السيد الوزير أرجو الموافقة على تعيين الدكتور فلان في مركز جراحة القلب الذي تأسس ووو …و اتخاذ مايلزم من اجراءات .. ثم وقّع الورقة وناولني اياها..

-سكر2-

 

ولكنني كنت مندهشا ولاأصدق نفسي .. ومددت يدي مترددا وأنا أحس أن هناك شيئا غير صحيح .. وخشيت ان يكون الامر قد التبس على الدكتور سكر وأنه ظن أنني من دمشق او انني شخص آخر مع واسطة .. فقررت ان اصارحه وأن ألفت نظره الى مالايعرفه .. فقلت له: دكتور .. نسيت أن تسألني سؤالا مهما .. فحدق بي وقال: ماهو؟ فقلت له: لم تسألني من اين أنا ومن أي محافظة؟؟ .. فقال لي بسرعة في لهجة اعتذارية: الحقيقة انني نسيت أن اقول لك انك ان كنت من خارج دمشق فانني لاأستطيع ان أؤمن لك سكنا فهذه مسؤوليتك ولاتوجد امكانات لاسكان من يحتاج مسكنا في المشفى .. هذه لاأقدر على مساعدتك بها .. فجمعت كل شجاعتي وصراحتي وقلت له: دكتور اريد أن أكون صريحا معك .. أنا لست دمشقيا .. أنا من الساحل .. وسمعت أن المشروع لأبناء دمشق .. وأنك كشخصية دمشقية لاتوافق الا على أبناء دمشق فأرجو ان لاتحس بالحرج اذا غيرت رأيك..

فانتفض الدكتور سكر وقال لي عبارة كانت كالومضة والبرق في ذاكرتي وقلبي الى هذه اللحظة .. قال بلهجة فيها عتب وغضب وتوبيخ مهذب: يادكتور .. هذه البلاد ليست لي .. وليست لك .. وليست لحافظ الأسد .. هذه البلاد لنا جميعا ..وعلينا أن نخدمها جميعا بكل مانستطيع..
وبدا التأثر هنا على وجه صديقي وكأنه يعيش تلك اللحظة وأضاف: اقشعر بدني وصعقني الجواب .. لأن ذلك الزمان هو زمان حافظ الاسد الذي لايجرؤ فيه كثيرون على التعبير عن ذلك بتلك الطريقة القوية التي تضع الرئيس معك في نفس الميزان..

وأكمل صديقي قائلا: أخذت الورقة .. وذهبت حالا الى أصدقائي .. ووضعت الورقة أمامهم .. وفوجئوا بالنتيجة من غير واسطة دمشقية .. وبعضهم حاول ان ينكر انني لم أحظ بتوصية .. ولكن في تلك اللحظة التي نظرنا فيها الى بعضنا كانت تنهار مجموعة من الأحكام المسبقة الخاطئة والقناعات الشاذة ان الوطن لمجموعة محدودة من الافراد او ابناء منطقة ما .. فالوطن للجميع ليس لابناء الساحل ولالأبناء دمشق ولا أبناء الجنوب .. بل للجميع عندما يكون هناك من يحب الوطن بهذه الطريقة .. و نهض بيننا مفهوم جديد علمنا جميعا أن نكون مثل الدكتور سكر الذي صار صديقا رائعا وأبا حنونا رعانا جميعا وساعدنا جميعا وأوفدنا الى الغرب لنتعلم ونعود لنعالج هذا الوطن .. بل ونجح المركز في عهده ايما نجاح وكان الولاء للعمل هو معيار التعيين فيه وساهم في نهضة علمية وخدمية رفيعة واستضافة مؤتمرات دولية كبرى .. وترجم التزامه الى سلوك وطني في هذه الحرب فلم يغادر البلاد كغيره رغم انه يحمل جنسية أوروبية .. وأنا شخصيا أدين للدكتور سكر بكل نجاحي في الغرب اذ أنه أوفدني على حساب المركز وبمؤازرة من الدكتور الشطي الذي كان في منتهى النبل معي لنيل أدق الاختصاصات والشهادات .. رغم انني لم أكن دمشقيا .. بل عاملني أفضل مما عامل فيه الدماشقة..

وتمنيت دوما أن أرد له الجميل .. ولكن الجميل الذي أرده دوما كان أن أعلم الناس حولي تلك العبارة الرائعة المغرقة في الوطنية: “هذه البلاد ليست لي .. وليست لك .. وليست للرئيس .. هذه البلاد لنا جميعا” .. هذه العبارة صارت مثل الأيقونة وصارت معادلة تلخص لي كيف تفهم الوطن وتكون وطنيا .. وصرت أطبقها في حياتي كلما التقيت سوريين من أي مشرب واتجاه ومذهب وطائفة وطبقة .. وتجلجل فيّ وأتذكر فيها شخصيات مثل فارس الخوري وهيلاريون كبوجي وانطون سعادة وكثيرين..

انتهي صديقي من عرض قصته وتعريفه للوطنية وتعرفه على الوطنية .. ولكن الحقيقة هي انني في تلك اللحظة عرفت كيف نصنع الوطنيين عندما يرون سلوكا وطنيا .. وكيف نحارب المناطقية والمحسوبية والطائفية والفساد .. فعندما يرى الناس نقاءنا وصفاءنا واخلاصنا فانهم يكونون مثل المرايا التي تعكس الضوء .. الناس كالمرايا وشظايا المرايا لاتعكس الظلام .. ولكنها تعكس الضوء .. وكلما تصرف الانسان بوطنية فانه يضيء وتنعكس عنه الأشعة لتنير للآخرين..

وأدركت أن صديقي بحكايته قادني الى أقرب نقطة تعريف بالوطنية التي هي ضوء ينعكس .. والفاسدون هم الظلام الذي لايعكس الا العتمة الى قلوب الناس ولايعلم الناس الا ان يكونوا مثله فاسدين .. وأجزم لو ان تلك المقابلة انتهت بالخيبة في نفس صديقي لانتصرت تفسيرات الانتماءات المناطقية والفساد وتجذرت تلك القناعة لديه بل وتحول الى ممارستها ليعكسها في سلوكه ولدى أصدقائه ومرؤوسيه..
وأتمنى من كل سوري بل وعربي وكل مسؤول ان يعلم هذه الصوفية في الوطنية لأبنائه ولمرؤوسيه وموظفيه .. وأن يردد دوما:

هذه البلاد ليست لي .. وليست لك .. وليست للرئيس .. هذه البلاد لنا جميعا..

عاشت سورية للجميع

—————-

في الصورة: الدكتور أحمد زكي سكر


التعليقات

إدارة الموقع ليست مسؤولة عن محتوى التعليقات الواردة و لا تعبر عن وجهة نظرها

لا يوجد تعليقات حالياً

شاركنا رأيك

Create Account



Log In Your Account