السوريون… و لعنة سمك السلمون .. بقلم عصام التكروري


السوريون… و لعنة سمك السلمون .. بقلم عصام التكروري

 

تنتشرُ في معظم عواصم صنع القرار السياسي والاقتصادي والثقافي في العالم ظاهرةٌ مثيرة للاهتمام ألا وهي ظاهرة “صيادي الرؤوس” (Head Hunting) ، قد يخال المرء -للوهلة الأولى- بأن هذه الظاهرة مُستمدة من خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي بأهل الكوفة، حينما توعدهم باصطياد ما أينع من رؤوسهم مُدعياً أنَّه صاحبها، لكن لصيادي الرؤوس في الغرب قصةٌ أخرى، إنهم عصبة من “شذاذ الآفاق الخلاّقين” الذينَ يتمتعون بنظر ثاقبٍ وحيلةٍ واسعةٍ تؤهلّهم الإيقاع بطرائد، طالما كانت مِداداً لتطور شعوب “المليار الذهبي”، وإذا كان حجاج العرب يُعرف من عمامته، فإنَّ “حجاجي” الغرب يُعرفون برفدهم أسواق الفن والرياضة والفكر والسياسة والاقتصاد والأدب، بعقول مرشَّحة لأنَّ تهب البشرية عالِماً جليلاً أو قاتلاً مأجورا. طالما شكّلت البلدان النامية (بالميم وليس بالباء!) قبلة لصيادي الرؤوس ليس فقط لأنّهاَ تزخر بالأدمغة، بل لأنَّ الإبداع فيها هو أم اللعنات، فمعظم أولي الأمر فيها لا يصغون لوصية السيد المسيح، وبالتالي “يطرحون درَرِهم قدَّام الخنازير”، وأما شعوبها فتؤمن بأنَّ المُبدع من سلالة الأنبياء، لذلك تعامله من مبدأ “لا كرامة لنبي في قومه”، وعليه، يكون كل يوم يحياه الموهوب العالمثالثي خطوة إضافية صوب الجلجلة، وعلى “درب الآلام” هذا تلهج روحه بالدعاء لمعذبيها: “إلهي اغفر لهم فإنهم لا يدرون ما يفعلون”، ولكن لحظة يجفًّ حلقه وحبره وضرعه يجد نفسه أمام طريقين: إما أن يصرخ “إلهي ، إلهي لماذا شبحتني” و يسقط في مشهدية الحلاج، أو يأخذ بنصيحة الإمام الشافعي القائل “من ذلّ بين أهاليه ببلدته، فالاغتراب له من أحسن الخلق”. خيارُ الموهوب بالرحيل عن وطنه له رائحة لا تخطئها أنوفُ “صيادي الرؤوس”، إنّها رائحة الموات الذي يجلل الأمم التي قال عنها الفيلسوف السعودي عبد الله القُصيمي “إن أمةً تمنح طباليها وزماريها أضعاف أضعاف ما تمنح علماءها ومثقفيها، هي أمةٌ مهزومةٌ حتماً”. ليست كلّ الرؤوس التي يصطادها الغرب من طينةٍ واحدة، ولكن سواء كانت هذه الرؤوس نبيلة أم مُنحطّة، فهي مافتئت تُشكل رأسَ الحربة لكل الغزوات الفكرية والاقتصادية والعسكرية التي يخوضها “المتسوقون الأجانب” ضد “دول المَنشأ”، بعد أن مدّتهم تلك العقول بما يلزم لتفادي مغامرة غير محسوبة النتائج، سواء برؤوس الجنود أو برؤوس الأموال. لعل إحدى أهمْ التطبيقات الناجحة لثلاثية “المُتسوّق ـ الصيَّاد ـ الطَّريدة” كانت تلك التي تمخّضت عن اصطياد كوفي أنان من قبل مؤسسة فورد فونديشن العاملة لصالح متسوقها الأساسي: وكالة الاستخبارات الأمريكية، حدث ذلك عندما رصد “الصيّاد” سلسلة من إشارات تنبئ بأنّ “الطريدة”، سيكون تلميذا مطيعاً “للمُتسوّق”، إحدى تلك الإشارات تجلّت في أن السيد أنان ـ عندما كان في التاسعة عشرة من عمره ـ أتخذ موقفاً رمادياً من ثورة 1957 التي أشعلها أبناء بلده غانا ـ بزعامة نكروما ـ ضد الهيمنة الأمريكية، ليحصل السيد أنان بعدها على منحة لإتمام دراسته في جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث رفض هناك الانضمام إلى حركة المطالبة بالحقوق المدنية للسود (1959ـ 1961) والتي أشعلها أبناء جلدته بزعامة “مارتن لوثر كينغ”، وليحصل بعدها على منحة ثانية لتغطية نفقات دراسته كاملة في الاقتصاد أولا، وبعدها في العلاقات الدولية، ثم تمَّ دعمه للعمل في إطار الأمم المتحدة ليشرع أنان بردّ الجميل للمتسوق الأمريكي، عبر تبنيه لمصالح واشنطن في حل النزاعات الدولية بدءاً من نزاع راوندا حينما رفض ـ بأمر من واشنطن ـ التدخل لإنهاء الإبادة الجماعية، التي أودت بحياة 800 ألف شخص، الأمر الذي دفع القائد الكندي لقوات حفظ السلام في الأمم المتحدة في رواندا لوصف أنان بأنه المسؤول الرئيسي عن جرائم الإبادة تلك. الأمر ذاته تكرر في البوسنة (1992ـ 1995) و يوغسلافيا السابقة ( 1999ـ1997)، أما الحقبة التي تلت حرب الخليج الأولى فقد أدت إدارة أنان لبرنامج “النفط مقابل الغذاء” ـ الذي فرضته واشنطن على العراق (1996ـ 2003)ـ إلى قتل نصف مليون طفل عراقي. في الحقيقة ،ما كان لظاهرة “اصطياد الرؤوس الموهوبة” أن تزدهر في الدول المتقدمة لولا تفشي ظاهرة “جزّ الرؤوس الموهوبة” في الدول النامية ـ ومنها بلادنا ـ حيث تحولت ظاهرة “اصطياد الرؤوس الموهوبة” إلى حرفة لها “شيوخ كار”، يتفانون في ممارستها ولا يرضون لذلك جزاء أو شكورا ، إنهم ثلّة من أنصاف الموهوبين الذين وصلَوا إلى مناصبهم مُتسلقين سلَّم الفساد أو الانتماءات الضيقة أو حلقات الدبكة، بعيدا عن أدنى كفاءة ما خلا تلك التي سيثبتونها لاحقاً بوصفهم “جُزَّاز الرؤوس الموهوبة”، هذه الكائنات لا تكرهُ أحد لأنَّ عشقُها للكرسي ملأ عليها جوارحها، ولو نازَعَها عليه أبناؤها لانتزعته من بين دفات الصدور، إنهم ينتشرون في أغلب مفاصل الدولة، و يبلغ عطاءهم أوجه في أزمنة الحروب والمِحَن حينما تحاول “الرؤوس الموهوبة” تصدّر المشهد في اقتراح الحلول الخلاّقة، ليشرع “شيوخ الكار” بجزّها وهم يرددون عبارة الحجاج “من ثَقُل رأسه وضعت عنه ثقله”، وأكاد أجزم بأنَّ الخبرة التي راكمها هؤلاء خلال الحرب الحالية في مجال العزل والإقصاء وتكسير المجاديف و”طقطقة البراغي” باتت تكفي كي تعود باليابان ـ وفي زمن ٍقياسي ـ إلى عصر ما قبل الصومال. الأشدّ إيلاماً في المأساة السوريّة يكمن في أنّ لعنة “جزّ الرؤوس الموهوبة” تسير جنباً إلى جنب مع “لعنة سمك السلمون” التي تصيب كل العباقرة السوريين، فكما يجوبُ السلمون المحيطات يجوبُ هؤلاء النبلاء العالم مراكمين الخبرات، وما أنْ تنضج علومهم حتى يختاروا العودة إلى مسقط رأسهم ليضعوا “بيوضَهم المعرفيّة” تماماً كما يفعل السلمون حينما يهجرُ المحيطات الشاسعة ليبدأ رحلةً بعكسِ التيّار كي يضع بيوضه في منبع النهر الذي جاء منه، في رحلة العودة تلك يتكالب على السلمون أشدُّ مفترسي الأرض فتكا ًمن دببة ونسور وذئاب تترصَده عند كلِّ منحدر مائي تماماً، كما يترصد الخبراتْ السوريَّة العائدة “جزازو الرؤوس الموهوبة”، وكما أنَّ “جزازي رؤوس السلمون” لا يأبهون بنُبل الغاية التي تدفعه لهَجر المحيطات صوب أعالي النهر -استمرار النوع وتجدد الحياة، كذلك فإن “جزازي الرؤوس الموهوبة” لا يعنيهم بشيء مسألة رفدْ الوطن بالخبرات والإمكانات التي تنهضُ به، وتحصنه مع فارقٍ بسيطٍ يكمن في أنَّ استمرارية نسل السلمون يُشكل دليلاً على نجاح جزء منه في تخطي مفترسيه، مقابل شبه الخواء الإبداعي الذي تعانيه شريحة من المؤسسات السورية، والذي يثبت أنَّ معظم الخبرات التي عادتْ للوطن لم تضع “بيوضها المعرفية” إما بسبب حرمانها من الإمكانات اللازمة، وبالتالي الموت كمدا، أو أنَّه تمّ اصطيادها من مؤسساتُ عابرة للقارات لتستثمر بخبراتها التي أنفقت الدولة السورية دمّ قلبها لتثميرها عبر برنامج البعثات العلمية السوري الذي هو أحد أهم البرامج المُطبقة بالعالم و أكثرها كرماً مع الموفدين. المُشترك في قصص النجاح التي نسمعها عن العقول السوريّة المُهاجِرة أو “المُطَفّشة” هو تأكيد أصحابها على أنّ رحيلهم تمّ بعد أنْ تقطعت بهم كل السُبل لإنفاق علمٍ حصَّلوه، وهناً على وهن، ليكتشفوا أنّ الولادة المُتاحة له هي أشبه بالولادة في الشهر الثامن، وليختاروا رحيلاً تشيّعه حملات التخوين التي يتولاها المرشحون لمنصب “جزازي الرؤوس الموهوبة”، أولئك الموتورون معرفياً الذين يعتقدون أنّ الإبداع هو عملية “تأبير خلطي” تتولاه الصدفة، أولئك الذين يأكلون أكباد الأنبياء الأحياء بعد أن أكل العمى الأخلاقي بصيرتهم، أولئك الذين يتنافسون على قطاف الرؤوس التي أينعت كي لا تفضح عورات جهلهم المقيم. الرحيل ليس حلاً، و البقاء للموت كمدا ليس حلاً أيضا، سورية ولاّدة للعقول، لكن إعادة بنائها لا تكون إلا بتكرّيم العقول عبر تمكينها من العمل، فأكرموهم قبل أن تفقدوهم فنبكي جميعا كالأطفال وطنا لم نصنه كالرجال.

صحيفة الأيام

Copyrights © assad-alard.com

المصدر:   http://www.assad-alard.com/detailes.php?id=532